تقدم قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه [ أن آتاه الله الملك ] ) وهو في قوة قوله : هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ؟ ولهذا عطف عليه بقوله : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) اختلفوا في هذا المار من هو ؟ فروى ابن أبي حاتم عن عصام بن رواد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال : هو عزير .
ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه . وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة وهذا القول هو المشهور .
وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير : هو أرميا بن حلقيا . قال محمد بن إسحاق ; عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال : وهو اسم الخضر عليه السلام .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجار ، ابن عم مطر فقال : سمعت رجلا من أهل الشام يقول : إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه : حزقيل بن بورا .
وقال مجاهد بن جبر : هو رجل من بني إسرائيل .
[ ص: 688 ]
[ وذكر غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنة ; فبعثه الله وهو كذلك ، وكان له ابن فبلغ من السن مائة وعشرين سنة ، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شابا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد بلغا الهرم ، وأنشدني به بعض الشعراء :
واسود رأس شاب من قبل ابنه ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر يرى أنه شيخا يدب على عصا
ولحيته سوداء والرأس أشعر وما لابنه حبل ولا فضل قوة
يقوم كما يمشي الصغير فيعثر وعمر ابنه أربعون أمرها
ولابن ابنه في الناس تسعين غبر
]
وأما القرية : فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها . ( وهي خاوية ) أي : ليس فيها أحد من قولهم : خوت الدار تخوي خواء وخويا .
وقوله : ( على عروشها ) أي : ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها ، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه . قال الله تعالى : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) قال : وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت بنو إسرائيل إليها . فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه ؟ فلما استقل سويا قال الله له أي بواسطة الملك : ( كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ) قالوا : وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار ، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال : ( أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) وذلك : أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء ، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن ( وانظر إلى حمارك ) أي : كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر ( ولنجعلك آية للناس ) أي : دليلا على المعاد ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) أي : نرفعها فتركب بعضها على بعض .
وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن أبي حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : ( كيف ننشزها ) بالزاي ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقرئ : ( ننشرها ) أي : نحييها قاله مجاهد ( ثم نكسوها لحما ) .
وقال السدي وغيره : تفرقت عظام حماره حوله يمينا ويسارا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارا قائما من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحما وعصبا وعروقا وجلدا ، وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار فنهق ، كله بإذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير ، فعند ذلك لما تبين له هذا كله ( قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) أي : أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانا فأنا أعلم أهل زماني بذلك ، وقرأ آخرون : " قال اعلم " على أنه أمر له بالعلم .