موضوع: الاسراء و المعراج - ملف كامل/ 2011 الأحد يوليو 03, 2011 6:23 pm
الاسراء و المعراج
تعد معجزة الإسراء والمعراج آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ورحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، أكرم الله بها نبيَّه محمد .
إنها رحلة "الإسراء والمعراج" التي أرى اللهُ فيها النبيَّ صلي الله عليه و سلم عجائب آياته الكبرى، ومنحه فيها عطاءً رُوحيًّا عظيمًا؛ وذلك تثبيتًا لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتكون تمحيصًا من الله للمؤمنين، وتمييزًا للصادقين منهم، فيكونوا خَلِيقين بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، وجديرين بما يحتمله من أعباء وتكاليف.
أمَّا الإسراء[1] فهي تلك الرحلة الأرضيَّة وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقُدْرَة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18].
وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، وكان زمنها قبل الهجرة بسَنَةٍ. على أنه أُثِيرَ حول الإسراء والمعراج جدل طويل وتساؤلات عِدَّة، فيما إذا كانت قد تمَّت هذه الرحلة بالرُّوح والجسد، أم بالروح فقط؟ ومتى وكيف تمَّت؟
هل الإسراء والمعراج معجزة؟
قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة نُجِيب أوَّلاً عمَّا إذا كانت رحلة "الإسراء والمعراج" معجزة أم غير ذلك؟
فالمعجزة -كما هو معروف- هي أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يَظْهَر على يد مدعي النبوَّة موافقًا لدعواه[2]، وكانت تُطلَب من الرسول برهانًا ودليلاً على صدقه، "باعتبار أن الشواهد المادِّيَّة والمعنويَّة الخارقة للمعتاد المألوف في قوانين الكون وأنظمته تضع الباحث عن الحقِّ أمام البرهان الواضح الدالِّ على صدق الرسول في دعواه الرسالة؛ ذلك لأن الذين يتحدَّاهم الرسول بالمعجزة لا يستطيعون الإتيان بمثلها منفردين أو مجتمعين، في حدود قدراتهم الممنوحة لهم بحسب مستواهم"[3].
ومعنى ذلك أنَّ المعجزة يُجْرِيها الله على يد الرسول صلي الله عليه و سلم تأييدًا له، وأنَّ الرسول يتحدَّى قومه بهذه المعجزة؛ ليتأكَّدوا أنها من قِبَلِ الله ، ومن ثَمَّ يتأكَّدون من صدقه، وأنه مؤيَّد من السماء، وذلك بعد أنْ يَظْهَرَ لهم عجزهم عن الإتيان بمثلها، كما هو الحال مع معجزة القرآن الكريم.
وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسِّر حادث الإسراء والمعراج؛ "فالرسول صلي الله عليه و سلم لم يتحدَّ أحدًا بهذه الرحلة، ولم يطلب من المشركين أنْ يُعَارِضُوه فيأتوا بمثلها، ولذلك إذا قلنا: إنها معجزة. فإننا نقول ذلك على سبيل المجاز؛ فهي أمر خارق للعادة، ولكنه لم يكن للتحدِّي، ولم يرَهُ الناس بأعينهم حتى يؤمنوا به كإحدى معجزات النبوَّة، وإنما كان تسلية للنبي ، واختبارًا للمسلمين المقبلين على مراحل أخرى من الجهاد يَعْلَمُها الله؛ كالهجرة وما بعدها من بناء دولة الإسلام الثابت الدعائم، القويِّ الأركان"[4].
المراجع [1] الإسراء لغة من السَّرى، وهو السير ليلاً، وقال السخاوي في تفسيره: إنما قال: ليلاً. والإسراء لا يكون إلاَّ بالليل؛ لأن المدَّة التي أُسْرِيَ به فيها لا تُقْطَع في أقل من أربعين يومًا، فقُطعت به في ليلٍ واحد، فكان المعنى: سبحان الذي أسرى بعبده في ليلٍ واحد من كذا وكذا، وهو موضع التعجب، وإنما عدل عن ليلة إلى ليل؛ لأنهم إذا قالوا: سرى ليلة. كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة بالسرى، فقيل: ليلاً. أي في ليل. انظر: تاج العروس، مادة (السرى) 38/262.
[2] انظر في ذلك مثلاً: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 2/116.
[3] رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص17.
[4] المصدر السابق ص18.
لماذا كان الإسراء والمعراج ؟
رجح أكثر علماء السيرة النبوية أن حدوث الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة واحدة[1]، أي بعد مرور اثني عشر عامًا من البَعثة، وهي سنوات ذاق خلالها النبي وصحبه الكرام ألوانًا وأصنافًا من الاضطهاد والعذاب، شمل الجانب النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
وكان من ذلك أنَّ قريشًا سعت إلى تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كُفَّارًا ومسلمين، واتفقوا على ألاَّ يُنَاكحوهم، ولا يُزَوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يَدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يَقْبَلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا رسول الله لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمَع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطرُّوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود.
وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن يُفَكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله ، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلتْ جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلاَّ ذِكْرَ اللَّه !!
وما إن انتهت هذه السنون العجاف حتى تلاها عام الحزن، الذي لم يكن تسميته إشفاقًا من أحد، ولكنها تسمية النبي صلي الله عليه و سلم لمَّا حدثتْ له مصيبتان كبيرتان في هذا العام (العاشرة من البعثة)، أمَّا الأولى فهي موت أبي طالب، عمِّ رسول الله ، والسند الاجتماعي له، وأمَّا الثانية فهي وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله والسند العاطفي والقلبي له!!
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلي الله عليه و سلم ، وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه؛ حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب.
وقد ازداد رسول الله صلي الله عليه و سلم غمًّا على غمٍّ حتى يئس من قريش، وخرج إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي قبيلة ثقيف بالطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال آخر: والله لا أُكلِّمك أبدًا... لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!
وهنا قام رسول الله صلي الله عليه و سلم من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال لهم: "إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي". إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه ، وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك التجأ إلى شجرة وأخذ يدعو بالدعاء المشهور: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي..."[2].
وهذا الدعاء يدلُّ على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، وقد جاء هذا الحزن وذاك الألم معبَّرًا عنه في حديث عائشة رضي الله عنها؛ إذ سألتْ رسول الله صلي الله عليه و سلم : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ : "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ... إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"[3].
ثم إنه لما عاد إلى مكة حزينًا كسيرَ النفس لم يستطع أن يَدْخُلْهَا إلاَّ في جوار مشرك، وهو مطعم بن عديّ!!
وفي هذه الظروف العصيبة والمحن المتلاحقة؛ في الطائف وفيما سبقها من وثيقة المقاطعة والحصار، ووفاة سَنَدَي الرسول الكريم صلوات الله عليه العاطفي والاجتماعي، زوجه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وعمه أبي طالب ؛ في هذه الظروف وبعد أن ضاقت به الأرض من المشركين اتَّسعت له أفق السماء، وجاءت معجزة الإسراء والمعراج تثبيتًا له ومواساة وتكريمًا؛ ولتكون بذلك منحة ربانيَّة تمسح الأحزان ومتاعب الماضي، وتنقله إلى عالم أرحب وأُفق أقدس وأطهر، إلى حيث سِدْرَة المنتهى، والقُرْب من عرش الرحمن .
المراجع [1] هناك اختلافٌ بيِّن في زمن الإسراء والمعراج، فقيل: قبل الهجرة بسنة. وهو قول ابن سعد (الطبقات 1/214)، وغيره، وبه جزم النووي (شرح صحيح مسلم 2/209). كما ورد عند ابن سعد أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وحكى ابن عبد البر أنه كان في رجب، وجزم به النووي. وحكى ابن الأثير أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين (الكامل 2/33)، وقيل غير ذلك. انظر محمد الأمين بن محمد: السيرة النبوية من فتح الباري 1/233، ويعلِّق الشيخ أبو زهرة فيقول: "وننتهي من هذا بأن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي على الطائف وردّهم له الردّ المنكر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير...". انظر رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص91.
[2] راجع في ذلك مثلاً: سيرة ابن هشام 1/419 وما بعدها.
[3] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى (3059)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلي الله عليه و سلم من أذى المشركين والمنافقين (1795).
روايات الإسراء والمعراج
تعددت روايات الإسراء والمعراج في السيرة والأحاديث؛ إذ جاء في كتب السيرة وكتب السُّنَنِ أنه ليس هناك حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرحلة المباركة، وإنما هناك أحاديث كلٌّ منها يُشِير إلى جزء أو جانب، وقد أورد الحافظ السيوطي أن الإسراء
ورد مطوَّلاً ومختصرًا من حديث أنس وأُبَيِّ بن كعب، وبُرَيْدَة، وجابر بن عبد الله، وحذيفة بن اليمان، وسَمُرة بن جُنْدُب، وسهل بن سعد، وشدَّاد بن أوس، وصُهَيب، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن أسعد بن زرارة، وعبد الرحمن بن قُرْط، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبي أُمَامَة، وأبي أيُّوب، وأبي حبَّة، وأبي الحمراء، وأبي ذَرٍّ، وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب، وأبي ليلى الأنصاري، وأبي هريرة، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. وقد عدَّ الإمام القسطلاني في المواهب اللدنِّيَّة ستَّة وعشرين صحابيًّا وصحابيَّة رَوَوْا حديث الإسراء والمعراج؛ لذا فهو حديث متواتر مع نصِّ القرآن عليه في سورتي الإسراء والنجم[1].
وإنا نكتفي هنا بما جاء في صحيح البخاري من روايات حول هذه الرحلة؛ فإتمامًا للرواية التي سقناها في شقِّ الصدر، يُتابِع أنسُ بن مالكٍ عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أنَّ نبيَّ الله حدَّثهم عن ليلةَ أُسْرِيَ به: ".. ثُمَّ أُوتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ" -فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ- فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. ففُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
هذا، وقد أورد الإمام مسلم عشرين رواية عن الإسراء برسول الله صلي الله عليه و سلم ، أغلبها تدور حول ما ذكرناه من روايتي البخاري، ولا نُطيل الحديث بتكرارها مرَّة أخرى، وعنها جميعًا يقول ابن كثير: "وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتَّفقتْ عليه من مسرى رسول الله صلي الله عليه و سلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرَّة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه،
فإن الخطأ جائز على مَنْ عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كلَّ رواية خالفت الأخرى مرَّة على حِدَة، فأثبتَ إسراءات متعدِّدة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب، وقد صرَّح بعضهم من المتأخِّرين بأنه صلي الله عليه و سلم أُسْرِيَ به مرَّة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرَّة من مكة إلى السماء فقط، ومرَّة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء. وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدًّا، ولم يُنْقَل هذا عن أحدٍ من السلف، ولو تعدَّد هذا التعدُّد لأَخْبَر النبي به أُمَّتَه، ولنقلته الناس على التعدُّد والتكرر"[4].
قال: "والحقُّ أنه صلي الله عليه و سلم أُسْرِيَ به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق، فلمَّا انتهى إلى باب المسجد ربط الدابَّة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحيَّة المسجد ركعتين، ثم أتى المعراج وهو كالسُّلَّم ذو درج يرقى فيها، فصَعِدَ فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقيَّة السموات السبع، فتلقَّاه مِن كلِّ سماء مقرَّبُوها، وسلَّم عليه الأنبياء عليهم السلام الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرَّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوًى يسمع فيه صريف الأقلام -أي: أقلام القدر- بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، ورأى هنالك جبريل على صورته، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضيَّة مسندًا ظهره إليه، ورأى الجنَّة والنار، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خفَّفها إلى خمس؛ رحمة منه ولطفًا بعباده، ثم هبط إلى بيت المقدس وصلى بالأنبياء هناك، ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس"[5].
هذا، وإن المشاهدَ الغريبة التي رآها النبي دليلٌ من معجزات الله تعالى لنبيِّه ومصطفاه؛ فالعقل البشري القاصر عن الوعي الشمولي للأشياء لَيستغرب مِنْ هذه المواقف المعراجيَّة الصادقة، لكن الله تعالى يَعْلَمُ حقيقة خلقه، يَعْلَمُ أنَّ الإنسان جاحد إلاَّ بدليل وبرهان، والإسراء والمعراج من أعظم المعجزات التي حدثت للنبي ؛ لِيَعْلَم الناسُ كافَّة أنَّ محمدًا نبيٌّ مُرْسَل للناس جميعًا من قِبَلِ الله تعالى، وما رآه رسول الله ما هو إلاَّ عِلْمٌ واجب على الأمة استيعابه وفهمه، وعليهم أن يبتعدوا عن كل شرٍّ أُرِيدَ بهم، أو أرادوه لأنفسهم، من خلال ما أوضحه الله لنبيه من مشاهد قويَّة تجعل الإنسان حذرًا من نفسه السيِّئة، وحذرًا من إبليس، ومن شهوات الدنيا المهلكة، وهي محذورات أرادنا الله تعالى أن نبتعد عنها من خلال عواقبها التي ذُكِرَتْ في الحديث السابق وغيره.
[1] سعيد حوَّى: الرسول ص330.
[2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674).
[3] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء (342)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله إلى السموات وفرض الصلوات (163).